سورة آل عمران - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)}
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والآناث واللحظات وجميع الأوقات، وبجميع ما في السموات والأرض، لا يغيب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال، وهو {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: قدرته نافذة في جميع ذلك.
وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته، وألا يرتكبوا ما نهى عنه وما يَبْغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإنْ أنظر من أنظر منهم، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر؛ ولهذا قال بعد هذا: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} الآية، يعني: يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر كما قال تعالى: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] فما رأى من أعماله حسنا سره ذلك وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغاظه، وود لو أنه تبرأ منه، وأن يكون بينهما أمد بعيد، كما يقول لشيطانه الذي كان مقترنًا به في الدنيا، وهو الذي جرَّأه على فعل السوء: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38].
ثم قال تعالى مؤكدا ومهددا ومتوعدا: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي: يخوفكم عقابه، ثم قال مرجيًا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}
قال الحسن البصري: من رأفته بهم حذرهم نفسه.
وقال غيره: أي: رحيم بخلقه، يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم، وأن يتبعوا رسوله الكريم.


{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عليه أمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ» ولهذا قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبّ، إنما الشأن أن تُحَبّ وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنافِسي، حدثنا عبيد الله بن موسى عن عبد الأعلى بن أعين، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَهَلِ الدِّينُ إلا الْحُبُّ والْبُغْضُ؟ قَالَ الله تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}» قال أبو زُرْعَة: عبد الأعلى هذا منكر الحديث.
ثم قال: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: باتباعكم للرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكم هذا كله ببركة سفارته.
ثم قال آمرًا لكل أحد من خاص وعام: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: خالفوا عن أمره {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب لله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس الذي لو كان الأنبياء- بل المرسلون، بل أولو العزم منهم- في زمانه لما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} الآية [آل عمران: 31] إن شاء الله تعالى.


{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم، عليه السلام، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها، لما له في ذلك من الحكمة.
واصطفى نوحا، عليه السلام، وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا، وانتقم له لما طالت مدته بين ظَهْرَاني قومه، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، سرا وجهارًا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم يَنْجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به.
واصطفى آل إبراهيم، ومنهم: سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وآل عمران، والمراد بعمران هذا: هو والد مريم بنت عمران، أم عيسى ابن مريم، عليهم السلام. قال محمد بن إسحاق بن يَسار رحمه الله: هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا ابن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان بن رخيعم بن سليمان بن داود، عليهما السلام. فعيسى، عليه السلام، من ذرية إبراهيم، كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام، إن شاء الله وبه الثقة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8